عزيزي القاريء، اقترب سأخبرك سرا: إذا كنت ترغب في قوة ناعمة فلا شيء أكثر قوة من الأسطورة! اصنع أسطورة (لو شاطر!) اجعل نفسك بطلا مخلصا، بطلا مختارا من الآلهة، ولا حاجة بك لتخليص الإنسانية جمعاء، كن مخلصا لعدد محدود جدا من البشر، واقتل البقية واغتصب النساء (فأنت بالطبع رجل، أليس كذلك؟ أو ربما نصدر لك استثناء ونضمك إلى الجيش إذا كنت ممن يحبون النساء أيا ما كان جندرك، لكنك لن تكون الملك إلا إذا كنت رجلا بالمفهوم التقليدي) ومثل بجثث الأطفال لا أحد يهتم، ما داموا ينتمون إلى شعب آخر، ثم اجعل شعبك الأبله اليائس يصدق أسطورتك (هذا هو الجزء المعقد) ثم احكم وأنت مرتاح.
كل شعب من الشعوب وقومية من القوميات أو ربما أمة من الأمم، كل من يجمعهم تاريخ واحد وبقعة جغرافية واحدة وظروف اقتصادية واحدة دائما يبدأ تاريخهم بحدوتة، يطلق الباحثون على هذه الحكايات اسم أسطورة المنشأ. مصر القديمة بدأت بأسطورة إيزيس وأوزوريس، اللذين علَّما المصريين الزراعة وحكما البلاد بالعدل. اليونان القديمة بدأت بأسطورة أوروبا التي اختطفها الثور، فرنسا بأسطورة جان دارك، وإنجلترا بأسطورة سيف الملك آرثر... وإسرائيل بحدوتة موسى والخروج من مصر.
الملحمة تبدأ كما نعرف من حواء وآدم أول البشر، ثم يقرر الإله أن يمحو العالم ويترك نوحا وأولاده، وبالطبع النساء لا تهم هنا، الأولاد هم سام وحام ويافث، تعيش ذرية الثلاثة جيلا بعد جيل قبل أن تقرر أن تبني برجا يصلها إلى الإله في السماء، وحتى يمنعهم الإله من الوصول إليه يقرر أن يبلبل ألسنتهم ويباين لغتهم فلا يفهم بعضهم بعضا. ويتفرقون في الأرض.
من ذرية سام يظهر إبراهيم وهو أبو العرب واليهود. ويذهب إبراهيم في رحلة طويلة تأخذه إلى أرض كنعان والتي نطلق عليها فلسطين حاليا، ثم مصر، ثم يعود إلى كنعان مرة أخرى، وينجب ابنه الأكبر إسحق وابنه الأصغر إسماعيل، من ذرية اسحق يأتي اليهود ومن ذرية إسماعيل يأتي العرب.
ينجب اسحق يعقوب، وينجب هذا الأخير اثني عشر ابنا هم الأسباط، والسِبط هو الحفيد. يبيع الأخوة أخيهم الصغير يوسف كعبد. فيذهب التجار به إلى مصر. وهناك ينال حظوة عند الفرعون لأنه يحذره من سبع سنوات عجاف، شهدها في حلم، فيعينه الفرعون وزيرا على خزائن مصر، وتمر الأيام وخلال السنوات العجاف التي حذرت مصر منها بفضل يوسف يذهب أخوة يوسف إلى مصر طلبا للقوت، فيستقبلهم يوسف الوزير وبعد بعض المناوشة يرحب بهم للحياة في مصر، حيث يعيشون ويعيش أولادهم من بعدهم لأجيال، ثم يأتي فرعون لا يعرف يوسف ولا يحب اليهود، فيقرر أن يقتل كل طفل بكري من أطفال اليهود، فتقوم أم يهودية بوضع طفلها في سلة وإلقائه في النيل، وتتلقفه زوجة الفرعون أو ابنته وتربيه كابنها، ويكبر الطفل ويصبح النبي موسى.
وتتعاقب الأحداث ويقود موسى اليهود للخروج من مصر وتحدث المعجزة وينقسم البحر ليمر اليهود، قبل أن يعود مرة أخرى ويغرق فرعون وجيوشه. بعد سنوات طويلة يصل اليهود إلى أرض كنعان وبعد الكثير من الأحداث والقتل أخيرا يقيمون دولة هناك، بمساعدة الرب بالطبع، اسمها إسرائيل.
والسؤال هنا: هل توجد أي حقيقة في كل هذه الحدوتة الطويلة؟ أو دعنا نعيد صياغة السؤال قليلا: هل يوجد دليل معترف به وفقا للعلم الحديث يثبت صحة هذه الأسطورة؟
الإجابة ببساطة: لا. لا يوجد أي دليل علمي على صحة تلك الأحداث. بداية من آدم مرورا بإبراهيم وأولاده من يطلق عليهم البطاركة أو الآباء، ووصولا إلى موسى وإنشاء مملكة إسرائيل وحتى ربما داوود وسليمان، يعني أسطورة المنشأ العملاقة هذه لا يوجد لدينا أي دليل على صحتها، لتستحق عن جدارة لقب أسطورة. كل ما يفعله الباحثون والمؤرخون وعلماء الآثار، هو وضع فرضية وراء فرضية، بغير قدرة على إثبات صحة أي منها.
فلما لا نعتبر التوراة نفسها وثيقة تاريخية في حد ذاتها؟ هنا ينقسم العلماء والباحثون بين مصدقين لا يجددون غضاضة في اعتبار كل حواديت التوارة حقيقة مع استثناء المعجزات ربما لدواعي العصر الحديث واحتسابهم على فئة العلماء، وبين منكرين تماما يرون أن التوراة كتبت لأهداف تختلف عن أهداف المؤرخين ومن ثم هي ليست كتابا في التاريخ ولا يصح اعتبارها كذلك. وفي المنتصف تقف جماعة خالية من العقد النفسية إزاء الدين سلبا أو إيجابا، فربما عاشوا طفولة سعيدة لم ينتهكوا خلالها باسم الدين جسديا أو نفسيا، هؤلاء اللطفاء لا يرون مشكلة في اعتبار أن أحداث التوارة بها شيء من الحقيقة لكنهم يأخذونها بحذر ويعملون المنطق ويقارنون ما ورد بها بما لديهم من دلائل، فيما يجدون أن عدم العثور على دليل على حدث ما ليس دليلا على عدم الحدوث.
الخيار لنا إذًا نحن العامة، لكن قبل أن نتسرع بالاختيار علينا أن نتذكر عواقب اختياراتنا وما يمكن أن تعنيه لنا في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي والحصار والقتل الذي يعانيه أهالي غزة. علينا أن نتذكر أن هذه الحواديت البريئة عن أب يهم بذبح ابنه، وملوك يدعهما الرب لارتكاب مجازر جماعية، وسلالة من المفترض أن نصدق أنها مازالت تعيش بيننا في صورتها النقية منذ آلاف السنين. كل هذه التخاريف اللطيفة تفضي في النهاية إلى العنصرية والكراهية والقتل.
وسواء آمنا بتلك الأسطورة الدموية أم لم نؤمن، فإننا نظل أمام حقيقة واحدة، وهي أننا نواجه ظاهرة بشرية شديدة الغرابة، فلدينا أسطورة هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة من عصور قديمة، وتحتوي على حدوتة منشأ يؤمن بها الجميع حتى من خارج هذا الشعب المزعوم، ولدينا مجموعة إثنية تزعم هي وآخرون أنها شعب طرد من أرضه لكنه مازال يستطيع أن يحددها بدقة على الخريطة.
ولأن أسطورة المنشأ تمتلك قوة ثقافية نافذة في تاريخ البشر وتركيبتهم النفسية، ولأن هذه الأسطورة تحديدا لا يؤمن بها فقط مجموعة صغيرة بل تؤمن بها شعوب المتوسط جمعاء، وكل الشعوب التي نقلت عنها وأرتبط تاريخها ثقافي بها إلى الأطلنطي وما بعده، فقد كان من الطبيعي جدا أن تعمَل تلك القنبلة الموقوتة والعصا السحرية عملها، وأخيرا تنشأ دولة.
وقد حدث ذلك في توقيت شديد المنطقية، إذ نشأت تلك الدولة اليهودية في منتصف القرن الماضي، في وسط حركة نشأة القوميات في الشرق الأوسط ودول الجنوب في أعقاب تراجع الإمبريالية وانهيار الإمبراطورية العثمانية، أحد معاقل العصور الوسطى. وقد كانت نشأة الدول القومية واحدة بين ملامح كثيرة للعصر الحديث بدأت تظهر في تلك المنطقة العتيقة، التي كانت في ذلك الوقت قد دخلت العصر الحديث لتوها. فقرن من الزمان زمن قصير في تعداد التاريخ. فيما تأخرت في خطاها نحو هذا العصر عن جيرانها الشماليين بما يقارب النصف ألفية كاملة.
وإذا كانت تلك الإسرائيل قد نشأت كملمح "طبيعي" في ظل حركة حديثة، فلا شيء طبيعيا في أنها نشأت على أعمدة تنتمي لفكر العصور الوسطى وما قبلها. بالطبع سيختلف معي الغالبية العظمى المؤمنة من سكان الشرق الأوسط، فهم يفضلون تفسير الأحداث بمنطق "الشرير القوي والطيب الضعيف" ودينامية التاريخ لا تعني لهم شيئا، فكل الأحداث تحركها قوى خفية شريرة تهدف إلى تدميرهم شخصيا، لسبب غير مفهوم لي، ربما لأن أمهاتهم أخبرتهم أنهم ظل الله على الأرض، أو شيء كهذا.
:
Comments